سورة التوبة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكر المفسرون أقوالاً في نزول الآية.
قال ابن عباس في بعض الروايات عنه أن علياً لما أغلظ الكلام للعباس، قال العباس: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام، والهجرة، والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فنزلت هذه الآية، وقيل إن المشركين قالوا لليهود، نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام، فنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت اليهود لهم أنتم أفضل. وقيل: إن علياً عليه السلام قال للعباس رضي الله عنه بعد إسلامه: يا عمي ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألست في أفضل من الهجرة؟ أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام فلما نزلت هذه الآية قال: ما أراني إلا تارك سقايتنا. فقال عليه الصلاة والسلام: «أقيموا على سقياتكم فإن لكم فيها خيراً».
وقيل افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعلي، فقال طلحة: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه، ولو أردت بت فيه.
قال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها.
قال علي: أنا صاحب الجهاد. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال المصنف رضي الله عنه: حاصل الكلام أنه يحتمل أن يقال: هذه الآية مفاضلة جرت بين المسلمين ويحتمل أنها جرت بين المسلمين والكافرين.
أما الذين قالوا إنها جرت بين المسلمين فقد احتجوا بقوله تعالى بعد هذه الآية في حق المؤمنين المهاجرين: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عَندَ الله} [التوبة: 20] وهذا يقتضي أيضاً أن يكون للمرجوح أيضاً درجة عند الله، وهذا يقتضي أيضاً أن يكون للمرجوح أيضاً درجة عند الله، وذلك لا يليق إلا بالمؤمن وسنجيب عن هذا الكلام إذا انتهينا إليه. وإما الذين قالوا: إنها جرت بين المسلمين والكافرين، فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى: {كَمَنْ ءامَنَ بالله} وبين من آمن بالله وهذا هو الأقرب عندي. وتقرير الكلام أن نقول: إنا قد نقلنا في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ ءامَنَ بالله} [التوبة: 18] أن العباس احتج على فضائل نفسه، بأنه عمر المسجد الحرام وسقى الحاج فأجاب الله عنه بوجهين:
الوجه الأول: ما بين في الآية الأولى أن عمارة المسجد، إنما توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن، أما إذا كانت صادرة عن الكافر فلا فائدة فيها البتة.
والوجه الثاني: من الجواب كل ما ذكره في هذه الآية، وهو أن يقال: هب أنا سلمنا أن عمارة المسجد الحرام وسقي الحاج، يوجب نوعاً من أنواع الفضيلة، إلا أنها بالنسبة إلى الإيمان بالله، والجهاد قليل جداً. فكان ذكر هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد خطأ، لأنه يقتضي مقابلة الشيء الشريف الرفيع جداً بالشيء الحقير التافه جداً، وأنه باطل، فهذا هو الوجه في تخريج هذه الآية، وبهذا الطريق يحصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية.
واعلم أن السقاية والعمارة فعل، قوله: {مَنْ ءامَنَ بالله} إشارة إلى الفاعل، فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل، والصفة بالذات وأنه محال، فلابد من التأويل وهو من وجهين:
الأول: أن نقول التقدير أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كم آمن بالله؟ ويقويه قراءة عبد الله بن الزبير {سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام} والثاني: أن نقول التقدير أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن بالله؟ ونظيره قوله تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله} [البقرة: 177].
المسألة الثالثة: قال الحسن رحمه الله تعالى: كانت السقاية بنبيذ الزبيب، وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديداً فكسر منه بالماء ثلاثاً، وقال إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء وأما عمارة المسجد الحرام فالمراد تجهيزه وتحسين صورة جدرانه، ولما ذكر تعالى وصف الفريقين قال: {لاَّ يَسْتَوُونَ} ولكن لما كان نفي المساواة بينهما لا يفيد أن الراجح من هو؟ نبه على الراجح بقوله: {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} فبين أن الكافرين ظالمون لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر وكانوا ظالمين، لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه وأيضاً ظلموا المسجد الحرام، فإنه تعالى خلقه ليكون موضعاً لعبادة الله تعالى، فجعلوه موضعاً لعبادة الأوثان، فكان هذا ظلماً.


{الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}
اعلم أنه تعالى ذكر ترجيح الإيمان والجهاد على السقاية وعمارة المسجد الحرام، على طريق الرمز ثم أتبعه بذكر هذا الترجيح على سبيل التصريح في هذه الآية، فقال: إن من كان موصوفاً بهذه الصفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممن اتصف بالسقاية والعمارة. وتلك الصفات الأربعة هي هذه: فأولها الإيمان.
وثانيها الهجرة.
وثالثها الجهاد في سبيل الله بالمال.
ورابعها الجهاد بالنفس، وإنما قلنا إن الموصوفين بهذه الصفات الأربعة في غاية الجلالة والرفعة لأن الإنسان ليس له إلا مجموع أمور ثلاثة: الروح، والبدن، والمال.
أما الروح فلما زال عنه الكفر وحصل فيه الإيمان، فقد وصل إلى مراتب السعادات اللائقة بها.
وأما البدن والمال فبسبب الهجرة وقعا في النقصان، وبسبب الاشتغال بالجهاد صارا معرضين للهلاك والبطلان.
ولا شك أن النفس والمال محبوب الإنسان، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلا للفوز بمحبوب أكمل من الأول، فلولا أن طلب الرضوان أتم عندهم من النفس والمال، وإلا لما رجحوا جانب الآخرة على جانب النفس والمال ولما رضوا بإهدار النفس والمال لطلب مرضاة الله تعالى فثبت أن عند حصول الصفات الأربعة صار الإنسان واصلاً إلى آخر درجات البشرية وأول مراتب درجات الملائكة، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الإقدام على السقاية والعمارة لمجرد الاقتداء بالآباء والأسلاف ولطلب الرياسة والسمعة؟ فثبت بهذا البرهان اليقين صحة قوله تعالى: {الذين ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله وأولئك هُمُ الفائزون} [التوبة: 20].
واعلم أنه تعالى لم يقل أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة لأنه لو عين ذكرهم لأوهم أن فضيلتهم إنما حصلت بالنسبة إليهم، ولما ترك ذكر المرجوح، دل ذلك على أنهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق، لأنه لا يعقل حصول سعادة وفضيلة للإنسان أعلى وأكمل من هذا الصفات.
واعلم أن قوله: {عَندَ الله} يدل على أن المراد من كون العبد عند الله الاستغراق في عبوديته وطاعته، وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان، وعند هذا يلوح أن الملائكة كما حصلت لهم منقبة العندية في قوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19] فكذلك الأرواح القدسية البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية، أشرقت بأنوار الجلالة وتجلى فيها أضواء عالم الكمال وترقت من العبدية إلى العندية، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا مشاهدة حقيقة العندية، ولذلك قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء: 1]
فإن قيل: لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين، فكيف قال في وصفهم {أعظم درجة} مع أنه ليس للكفار درجة؟
قلنا: الجواب عنه من وجوه:
الأول: أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله: {قُلِ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] وقوله: {أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} [الصافات: 62] الثاني: أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات، تنبيهاً على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى.
الثالث: أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة والمراد منه ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال، ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنما بطل إيجابهما للثواب في حق الكفار لأن قيام الكفر الذي هو أعظم الجنايات يمنع ظهور ذلك الأثر.
واعلم أنه تعالى لما بين أن الموصوفين بالإيمان والهجرة أعظم درجة عند الله بين تعالى أنهم هم الفائزون وهذا للحصر، والمعنى أنهم هم الفائزون بالدرجة العالية الشريفة المقدسة التي وقعت الإشارة إليها بقوله تعالى: {عِندَ رَبّهِمْ} وهي درجة العندية، وذلك لأن من آمن بالله وعرفه فقل أن يبقى قلبه ملتفتاً إلى الدنيا، ثم عند هذا يحتال إلى إزالة هذه العقدة عن جوهر الروح، وإزالة حب الدنيا لا يتم له إلا بالتفريق بين النفس وبين لذات الدنيا، فإذا دام ذلك التفريق وانتقص تعلقه بحب الدنيا، فهذا التفريق والنقص يحصلان بالهجرة. ثم إنه بعده لابد من استحقار الدنيا والوقوف على معايبها وصيرورتها في عين العاقل بحيث يوجب على نفسه تركها ورفضها، وذلك إنما يتم بالجهاد لأنه تعريض النفس والمال للهلاك والبوار، ولولا أنه استحقر الدنيا وإلا لما فعل ذلك، وعند هذا يتم ما قاله بعض المحققين وهو أن العرفان مبتدأ من تفريق ونقص وترك ورفض، ثم عند حصول هذه الحالة يصير القلب مشتغلاً بالنظر إلى صفات الجلال والإكرام، وفي مشاهدتها يحصل بذل النفس والمال، فيصير الإنسان شهيداً مشاهداً لعالم الجلال مكاشفاً بنور الجلالة مشهوداً له بقوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ورضوان وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خالدين فِيهَا أَبَداً} وعند هذا يحصل الانتهاء إلى حضرة الأحد الصمد، وهو المراد من قوله: {عِندَ رَبّهِمْ} وهنا يحق الوقوف في الوصول.
ثم قال تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ورضوان وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خالدين فِيهَا أَبَداً إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
واعلم أن هذه الإشارة اشتملت على أنواع من الدرجات العالية وأنه تعالى ابتدأ فيها بالأشرف فالأشرف، نازلاً إلى الأدون فالأدون، ونحن نفسرها تارة على طريق المتكلمين وأخرى على طريقة العارفين.
أما الأول فنقول: فالمرتبة الأولى منها وهي أعلاها وأشرفها كون تلك البشارة حاصلة من ربهم بالرحمة والرضوان، وهذا هو التعظيم والإجلال من قبل الله. وقوله: {وجنات لَّهُمْ} إشارة إلى حصول المنافع العظيمة وقوله: {فِيهَا نَعِيمٌ} إشارة إلى كون المنافع خالصة عن المكدرات لأن النعيم مبالغة في النعمة، ولا معنى للمبالغة في النعمة إلا خلوها عن ممازجة الكدورات وقوله: {مُّقِيمٌ} عبارة عن كونها دائمة غير منقطعة. ثم إنه تعالى عبر عن دوامها بثلاث عبارات: أولها: {مُّقِيمٌ}.
وثانيها: قوله: {خالدين فِيهَا}.
وثالثها: قوله: {أَبَدًا} فحصل من مجموع ما ذكرنا أنه تعالى يبشر هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين بمنفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، وذلك هو حد الثواب. وفائدة تخصيص هؤلاء المؤمنين بكون هذا الثواب كامل الدرجة عالي الرتبة بحسب كل واحد من هذه القيود الأربعة. ومن المتكلمين من قال قوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} المراد منه خيرات الدنيا وقوله: {وَرِضْوَانٍ لَهُمْ} المراد منه كونه تعالى راضياً عنهم حال كونهم في الحياة الدنيا وقوله: {وجنات} المراد منه المنافع وقوله: {لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ} المراد منه كون تلك النعم خالصة عن المكدرات، لأن النعيم مبالغة في النعمة وقوله: {مُّقِيمٌ خالدين فِيهَا أَبَداً} المراد منه الإجلال والتعظيم الذي يجب حصوله في الثواب.
وأما تفسير هذه الآية على طريقة العارفين المحبين المشتاقين فنقول: المرتبة الأولى من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم}.
واعلم أن الفرح بالنعمة يقع على قسمين: أحدهما: أن يفرح بالنعمة لأنها نعمة.
والثاني: أن يفرح بها لا من حيث هي بل من حيث إن المنعم خصه بها وشرفه وإن عجز ذهنك عن الوصول إلى الفرق بين القسمين فتأمل فيما إذا كان العبد واقفاً في حضرة السلطان الأعظم وسائر العبيد كانوا واقفين في خدمته، فإذا رمى ذلك السلطان تفاحة إلى أحد أولئك العبيد عظم فرحه بها فذلك الفرح العظيم ما حصل بسبب حصول تلك التفاحة، بل بسبب أن ذلك السلطان خصه بذلك الإكرام، فكذلك هاهنا. قوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ ورضوان} منهم من كان فرحهم بسبب الفوز بتلك الرحمة، ومنهم من لم يفرح بالفوز بتلك الرحمة، وإنما فرح لأن مولاه خصه بتلك الرحمة وحينئذ يكون فرحه لا بالرحمة بل بمن أعطى الرحمة، ثم إن هذا المقام يحصل فيه أيضاً درجات فمنهم من يكون فرحه بالراحم لأنه رحم، ومنهم من يتوغل في الخلوص فينسى الرحمة ولا يكون فرحه إلا بالمولى لأنه هو المقصد، وذلك لأن العبد ما دام مشغولاً بالحق من حيث إنه راحم فهو غير مستغرق في الحق، بل تارة مع الحق وتارة مع الخلق، فإذا تم الأمر انقطع عن الخلق وغرق في بحر نور الحق وغفل عن المحبة والمحنة، والنقمة والنعمة، والبلاء والآلاء، والمحققون وقفوا عند قوله: {يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم} فكان ابتهاجهم بهذا وسرورهم به وتعويلهم عليه ورجوعهم إليه ومنهم من لم يصل إلى تلك الدرجة العالية فلا تقنع نفسه إلا بمجموع قوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} فلا يعرف أن الاستبشار بسماع قول ربهم، بل إنما يستبشر بمجموع كونه مبشراً بالرحمة، والمرتبة الثانية هي أن يكون استبشاره بالرحمة وهذه المرتبة هي النازلة عند المحققين. واللطيفة الثانية من لطائف هذه الآية هي أنه تعالى قال: {يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم} وهي مشتملة على أنواع من الرحمة والكرامة. أولها: أن البشارة لا تكون إلا بالرحمة والإحسان.
والثاني: أن بشارة كل أحد يجب أن تكون لائقة بحاله، فلما كان المبشر هاهنا هو أكرم الأكرمين، وجب أن تكون البشارة بخيرات تعجز العقول عن وصفها وتتقاصر الأفهام عن نعتها.
والثالث: أنه تعالى سمى نفسه هاهنا بالرب وهو مشتق من التربية كأنه قال: الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها ولا حصر لها يبشركم بخيرات عالية وسعادات كاملة.
والرابع: أنه تعالى قال: {رَّبُّهُمْ} فأضاف نفسه إليهم، وما أضافهم إلى نفسه.
والخامس: أنه تعالى قدم ذكرهم على ذكر نفسه فقال: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم} والسادس: أن البشارة هي الإخبار عن حدوث شيء ما كان معلوم الوقوع، أما لو كان معلوم الوقوع لم يكن بشارة، ألا ترى أن الفقهاء قالوا: لو أن رجلاً قال من يبشرني من عبيدي بقدوم ولدي فهو حر، فأول من أخبر بذلك الخبر يعتق، والذين يخبرون بعده لا يعتقون وإذا كان الأمر كذلك فقوله: {يُبَشِّرُهُمْ} لابد أن يكون إخباراً عن حصول مرتبة من مراتب السعادات ما عرفوها قبل ذلك، وجميع لذات الجنة وخيراتها وطيباتها قد عرفوه في الدنيا من القرآن، والإخبار عن حصول بشارة فلابد وأن تكون هذه البشارة بشارة عن سعادات لا تصل العقول إلى وصفها ألبتة. رزقنا الله تعالى الوصول إليها بفضله وكرمه.
واعلم أنه تعالى لما قال: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم} بين الشيء الذي به يبشرهم وهو أمور: أولها: قوله: {بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ}.
وثانيها: قوله: {وَرِضْوَانٍ} وأنا أظن والعلم عند الله أن المراد بهذين الأمرين ما ذكره في قوله: {ارجعى إلى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 28] والرحمة كون العبد راضياً بقضاء الله وذلك لأن من حصلت له هذه الحالة كان نظره على المبلي والمنعم لا على النعمة والبلاء، ومن كان نظره على المبلي والمنعم لم يتغير حاله، لأن المبلي والمنعم منزه عن التغير.
فالحاصل أن حاله يجب أن يكون منزهاً عن التغير، أما من كان طالباً لمحض النفس كان أبداً في التغير من الفرح إلى الحزن، ومن السرور إلى الغم، ومن الصحة إلى الجراحة، ومن اللذة إلى الألم، فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا عندما يصير العبد راضياً بقضاء الله فقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} هو أنه يزيل عن قلبه الالتفات إلى غير هذه الحالة، ويجعله راضياً بقضائه. ثم إنه تعالى يصير راضياً وهو قوله: {وَرِضْوَانٍ} وعند هذا تصير هاتان الحالتان هما المذكورتان في قوله: {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} وهذه هي الجنة الروحانية النورانية العقلية القدسية الإلهية. ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الجنة العالية المقدسة ذكر الجنة الجسمانية، وهي قوله: {وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خالدين فِيهَا أَبَداً} وقد سبق شرح هذه المراتب، ولما ذكر هذه الأحوال قال: {إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} والمقصود شرح تعظيم هذه الأحوال، ولنختم هذا الفصل ببيان أن أصحابنا يقولون إن الخلود يدل على طول المكث، ولا يدل على التأبيد، واحتجوا على قولهم في هذا الباب بهذه الآية، وهي قوله تعالى: {خالدين فِيهَا أَبَداً} ولو كان الخلود يفيد التأبيد، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخلود تكراراً وأنه لا يجوز.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)}
اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أن يكون جواباً عن شبهة أخرى ذكروها في أن البراءة من الكفار غير ممكنة وتلك الشبهة إن قالوا إن الرجل المسلم قد يكون أبوه كافراً والرجل الكافر قد يكون أبوه أو أخوه مسلماً، وحصول المقاطعة التامة بين الرجل وأبيه وأخيه كالمتعذر الممتنع، وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك البراءة التي أمر الله بها، كالشاق الممتنع المتعذر، فذكر الله تعالى هذه الآية ليزيل هذه الشبهة. ونقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال: لما أمر المؤمنون بالهجرة قبل فتح مكة فمن لم يهاجر لم يقبل الله إيمانه حتى يجانب الآباء والأقارب إن كانوا كفاراً، قال المصنف رضي الله عنه: هذا مشكل، لأن الصحيح أن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة، فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه؟ والأقرب عندي أن يكون محمولاً على ما ذكرته، وهو أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتبري عن المشركين وبالغ في إيجابه، قالوا كيف تمكن هذه المقاطعة التامة بين الرجل وبين أبيه وأمه وأخيه، فذكر الله تعالى: أن الانقطاع عن الآباء والأولاد والأخوان واجب بسبب الكفر وهو قوله: {إِنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان} والاستحباب طلب المحبة يقال: استحب له، بمعنى أحبه، كأنه طلب محبته. ثم إنه تعالى بعد أن نهى عن مخالطتهم، وكان لفظ النهي، يحتمل أن يكون نهي تنزيه وأن يكون نهي تحريم، ذكر ما يزيل الشبهة فقال: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} قال ابن عباس: يريد مشركاً مثلهم لأنه رضي بشركهم، والرضا بالكفر كفر، كما أن الرضا بالفسق فسق.
قال القاضي: هذا النهي لا يمنع من أن يتبرأ المرء من أبيه في الدنيا، كما لا يمنع من قضاء دين الكافر ومن استعماله في أعماله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8